ذات

يتميز صنع الله ابراهيم الروائي و المؤلف بقدرة ابداعية متميزة ، و موهبة فريدة في السرد القصصي الراصد للواقع بكل تفاصيله و تنوعه ، عندما تقرأ لصنع الله ابراهيم فانت تعيش الواقع بلا اراء و لا رتوش و لا تدخل من المؤلف ، تعيشه بعين الراصد المدقق الذي يترك لك الاشياء كما هي لتصنع منها رأيك الخاص و تتخذ ما تشاء من مواقف

قرأت مؤخرا لصنع الله ابراهيم رواية عنوانها " ذات " و هي تنتمي لنمط رواية اللا قصة ، هي ليست رواية لها بداية و ذروة و نهاية و رسالة يهدف الراوي الى ايصالها للقارئ و انما هي حالة من رصد الواقع المتصل لشخصية ذات بطريقة الصور المركبة ، تلك الصور اللتي نراها في الأخبار أحيانا تحت عنوان "بلا تعليق " ، و ان اختلفت الرواية هنا في أن صورها حية تروي لك الواقع بتفاصيله الدقيقة .

تحكي القصة لقطات من حياة ذات ، امرأة مصرية تقليدية، حتى اسمها يوحي بشكل ما بالعموم ، ذات أو نفس ليس مهما من هي ، فمثلها ملايين من النساء المصريات اللاتي لا تميزهن صفة معينة و ان كن في مجموعهن يتميزن بعدد من الخصائص ، مثلا القدرة الفريدة على الحكي و نقل الأخبار و المعلومات و الطرائف فيما أسماه المؤلف بالبث ، الانفصال الشديد بين الأحلام و بين الواقع المعاش ، التفاني في خدمة البيت و الزوج و الأطفال ، و القدرة الفائقة على تحمل الحياة بمصاعبها و مشاكلها

يمضي بنا الكاتب في فترة هامة للغاية من تاريخ مصر المعاصرة ، فترة الهجرة المؤقتة لملايين الأيدي العاملة المصرية الى بلدان النفط ، فترة تولي الرئيس حسنى مبارك لمقاليد الحكم ، فترة الثمانينات المصرية بكل ما فيها من فساد و محاولات بناء و حراك اجتماعي شديد القسوة ، فترة صفقات الأغذية الفاسدة و حركات التطرف و شركات توظيف الاموال و تحالف السلطة و المال ، يكشف لنا الكاتب في أسلوب فريد تأثير الكل السياسي و الاجتماعي في مصر على حياة ذات و اقرانها في العمل أو السكن من الجيران ، و من خلال التطور الأجتماعي للشخصيات و تأثير السفر أو البقاء في مصر على المكانة الاجتماعية و ما يتبعها من أنماط سلوكية مستحدثة مثل الاحتفال بأعياد الميلاد على الطريقة الغربية و استهلاك أدوات و أجهزة كرمز للصعود الاجتماعي ، يبرع الكاتب في تصوير التفاخر الصوري للشخصيات باقتناء سيارات بعينها أو تجديد الشقق بشكل دائم من خلال ما أسماه بمسيرة الهدم و البناء و ترك بقايا التجديد أمام أبواب الشقق كدليل على التجديد ذاته في مفارقة غريبة للشخصية المصرية اللتي تبني لتتفاخر و ليس لتتمتع ، من خلال فصل يروي قصة ذات و فصل يتناول عناوين صحف الفترة الزمنية نجد الكاتب يحاول ان يضعنا في التصور العام للبيئة الاجتماعية و السياسية اللتي تتحرك فيها شخصياته ، تأثير الفساد الحكومي على سلوكيات المواطنين ، ازمة الثقة المزمنة مع السلطة و يتجلى ذلك في أوضح صورة عندما حاولت ذات تحرير محضر غش تجاري لأحد الباعة الذي باعها سلعة مغشوشة ، لتكتشف بمعاونة صديقتها أن تناول الأكل الفاسد أقل ضررا من الدوران في اروقة الجهات الحكومية لتحرير محضر للبائع ، صورة صريحة لهضم حق المواطن العادي في الحصول على أبسط حقوقه و هو الشكوى ، يطالعنا الراوي أيضا باستكمال لصورة السلوكيات المظهرية من خلال البائع الملتحي الذي يبيعها لعبة معطوبة و يرفض ارجاع اللعبة عندما تكتشف ذات عطبها بل و يستأذنها الى الصلاة صارخا أنه ليس من شانه سلامة بضائعه ، يحاول الكاتب أن يشرح الشخصية المصرية اللتي باتت مجنونة بالمظهرية و برأي الناس ، فتجديد الشقق و شراء السيارات بل و الالتحاء و التدين أصبح يمارس لارضاء الناس و اكتساب مكانة اجتماعية ما ، يتناول أيضا الكاتب الثقافة السمعية للمصريين و ولعهم بالبث و الأخبار و اعتمادهم على الكلام كوسيلة رئيسية للمعلومات بدون الحصول على أدلة أو التأكد من ما يسمعون ( نصف مودعي شركات توظيف الأموال أودعوا أموالهم بعد ترشيحات لفظية من المعارف و الصحافة بل و شيوخ الدين ) ، تنتهي القصة بذات تبكي بعد أن غشها محل تابع للقطاع العام و باعها سمك معطوب و رنجة متحللة و لا تجد في نفسها قوة لتذهب شاكية بعد أن خبرت ثمن الشكوى في المصالح الحكومية في اشارة الى شعب تبيعه السلطة حياة متحللة و لا يملك حتى حق الشكوى

القصة في مجملها جميلة و شيقة و الكاتب متمكن من الوصف و الأحداث بشكل يجعلك لا تمل القصة رغم كونها لقطات و ليست رواية بالمعنى الكلاسيكي للرواية ، الرواية تقول لنا في النهاية هذه لقطة من حياة امرأة و أم مصرية أي لقطة من حياتنا جميعا

  • لا توجد تعليقات